وكان يعرف هذه القدرة .. ولكنه لا يعرف مصدرها , إنه يمارسها فقط .. فهذا الرجل فلاح لا يقرأ ولا يكتب .. وأتجه إلى الدين بالصدفة .. فقد كان يزور أحد أقاربه في دير صغير.. وبقى بعض الوقت .. وبهرته العزلة والهدوء .. وهذاالصفاء وهذه القناعة بشئً .. وقرر أن يكون واحداً من رجال الدين .. وأختفى بعيداً عن قريته وهو في العشرين من عمره بعض الوقت , وفي ذلك الوقت كان قد تعلم مبادئ الدين وتزوج من فتاة تكبره بخمس سنوات ..
وأنجبت له طفلاً ومات .. وعندما مات هذا الطفل قال أبوه :
الحمد لله .. من الصعب أن يكون الإنسان أباً .. لأنه من الصعب أن يكون أبناً .. وأصعب من هذا كله أن يكون زوجاً لأم لا تكف عن البكاء على طفلها وعلى زوجها وعلى حالها ..
ومن الصعب أن يرى الإنسان زوجة تضع كل حياتها في عينيها .. وتصبها دمعة دمعة حتى الموت !
وماتت الزوجة أيضاً ..
ولكن راسبوتين كان جاهلاً .. ولكن فيه قدرة غريبة خفية على جذب الناس .. وإقناعهم .. وهو لا يدري ما هذا الذي يسحب الناس وراءه - على الأصح يسحب النساء وراءه ومعه وأمامه وبين أحضانه في كل مكان ..
فلا هو غني .. ولا هو رقيق .. ولا هو محب للمرأة .. ولا هو يشعر بأدنى إحترام لأحساساتها .. وكان يقول :
إحتقرها تحترمك .. لآنها لا تعرف معنى الإحترام .. إنها تعرف شيئاً واحداً: إذلالها .. وإذلال المرأة هو تكريم لها .. فالرجل الذي يقسو عليها ترى أنه يهتم بها .. والذي يضيق عليها ترى أنه يغار عليها .. فأحبسها تحصل منها على كل نعيم الدنيا !
وهو الذي قال :
الخطيئة .. لا شئ إلا الخطيئة تجعل الإنسان يشعر بنعمة الحياة وصدق الغريزة .. ومن موقع الخطيئة يمكنك أن تكون أكثر الناس إمتناناً للسماء !
ولم تكن "فلسفة" راسبوتين عن قراءة وتأمل .. وإنما عن تجربة وإدراك لمعاني الحياة والناس .
وكان من الطبيعي أن يتولد له أعداء مادام ناجحاً .. فهناك أعداء النجاح .. وهناك الخائفون على نجاحهم من نجاحه .
وتكاثر الأعداء من رجال الدين وأتهموه في شرفه .. وفي دينه .. وقالوا إنه يقيم مباذل جماعية .. أو طقوساً دينية جنسية ..
فبعد الصلوات والركوع والسجود يجئ الشراب والرقص على الشموع والذوبان في الخمور ويتلاشى الرجال في أحضان النساء وينسون الدين ولا يشعرون إلا بالدنيا ..
ويقول راسبوتين :
إنها لحظات صوفية أن ينسى الإنسان ما حوله ومن حوله .. ومن هو ولا يعرف إن كان رجلاً أو إمرأة , إنساناً أو حيواناً.
وقرر راسبوتين أن يكون راهباً نهائياً .. فسافر إلى اليونان وراح يدور حول جبل أتوس .. ويقول :
جئت إليك من روسيا أحمل قلبي على يدي .. وأريد أن أعود بلا قلب !
وكان له ما أراد .. فعاد أكثر صفاءً .. وأكثر إصراراً .. وأقوى جسماً .. وبلا قلب !
وإكتفى بمئات القلوب حواليه .. تدق معه خوفاً وفزعاً ورغبةً وجوعاً وعطشاً ..
وجاءت الصدفة - وفي حياته كثير من الصدف العجية -
لقد سمعت به إحدى النبيلات ولمست قواه الروحية الساحرة ..
وراحت تشيع بين نساء البلاط القيصري أن قواه الروحية لا يقاومها أحد , تماماً كقواه الجسمية .. وأن الحياة معه وفي احضانه هى : الجنة !
وكانت النساء أكثر الجميع دعاية له .. وهو يعلم هذه الحقيقة :
إذا كان لديك فكرة تريد لها أن تنتشر,فإعطها لإمرأة .
سوف تنشرها لك , لأنها من السهل أن تصدق أي شئ .. وسوف تقنع الناس بها لانها لا تهتم بالعلم بقدر إهتمامها بإدعاء العلم . وسوف تتحمس لها , لأن المرأة تتحمس للشئ الذي جربته أكثر من الشئ الذي قرأت عنه أو فكرت فيه .
وإمرأة واحدة تكفي جداً !
وأصبح راسبوتين شهيراً بأنه " الرجل المقدس " القادر على شفاء النفوس والأجسام : بنظرته .. بلمسته . بقبلته بصلواته .. بدعواته ..
وجاءت النساء بالألوف يبكين ويحملن أطفالهن من أجل الشفاء , وكان الراهب المقدس يشفي الجميع .. ويستبقي لنفسه بعض الحسناوات .. ولم يكن يقنع بأربع أو خمس .. كان في داخله وحشاً لايرتوي من الشفاه , ولا يشبع من الخدود .. وكان يسعد الجميع - وهى قدرة أخرى هائلة!
وفي إحدى الكنائس أرتكب قسيس غلطة .. فقد راح يصف للمؤمنين كيف أن الشيطان إرتدى ملابس أحد الرهبان .. وإتخذ له أسماً : راسبوتين .. وكيف أن راسبوتين يقيم الصلوات الفاجرة , والمواخير المقدسة , وكيف يفتك بالعذارى وهن راضيات , وإن هذا الرجل شر يجب أن تقاومه الكنيسة وأن يعاونها في ذلك المؤمنون:
أيها المؤمنون تعالوا جميعاً على الرجل الذي أستحل الحرمات , وإستباح المقدسات !
وذهبت المؤمنات ليلقين نظرة على هذا الشيطان.. ووقعن في أحضانه من أول نظرة , وصرن عبيداً له من ثاني نظرة .. ومن ثالث نظرة لم يعد أحد يذهب إلى الكنيسة !
وتشاء الصدفة أن تلد الأمبراطورة أربع بنات , وبعد ذلك ولدت طفلاً .. هذا الطفل يحمل عرش أسرة آل رومانوف .. وبذلك فحياته هي الدنيا ..
ولكن هذا الطفل ورث عن جدته الملكة فيكتوريا مرضاً خطيراً : دمه لا يتجلط إذا جرح , أي إنه إذا نزف دمه يظل يسيل حتى يصاب بالحمى وإغماء يؤدي إلى الموت ..
ومن الطبيعي أن يجرح الطفل نفسه وهو يلعب .. وجاء الطبيب .. ونظر إلى الطفل وهز رأسه بما معناه :
هذه المرة صاحب السمو سيموت .. مع الأسف !
وتقدمت النبيلة التي رأت راسبوتين وشهدت له بالقداسة والكرامات وقالت :
عندي طبيب .. صانع معجزات !
وإستدعته الإمبراطورة ..
وكان راسبوتين غارقاً في الخمر والرقص ورفعوه من فوق الجثث العارية .. وغطوه بملابس الرهبان .. وطلب إلى واحدة من الفتيات أن تعاونه على أن يغسل وجهه .. ولما أتت له بالماء الدافئ ألقاه على جسدها .. وصرخ :
وهل أغسل وجهي بالماء .. من قال انني حصان أو خنزير ..
هاتوا النبيذ !
وأتوا له بالنبيذ .. وغسل وجهه وخرج ودخل القصر الأمبراطوري ..
وسأل : وأين المريض الذي شفى الآن ؟
وركعت الإمبراطورة عندما رأت أن الدم قد توقف نزيفه .. وهنا صاح راسبوتين وقال :
ألم أقل لك يامولاتي أنه شفى !
بعد ذلك كانت الإمبراطورة هي التي تتولى الدعاية والدعوة له في كل مكان .. وإقترب راسبوتين من القصر الإمبراطوري .. وقد إهتدى إلى الطريق العميق .. وأصبح يتردد على القصر.. وكانت الإمبراطورة تشكو من أوجاع في جسمها ونفسها وعالجها .
ومرة أخرى جرح ولي العهد .. فقد كان يلعب في القصر عندما سقط على ركبته فنزف دماً .. وأبرقوا لراسبوتين وكان يبعد عن العاصمة أكثر من ألفي ميل .. وأبرق راسبوتين لهم وقال :
لا خوف على صاحب السمو .. أعطوه هذه البرقية .. فإذا لمسها زال عنه المرض !
ولمس الأمير برقية راسبوتين .. وتوقف النزيف !
ولكن بعد ذلك بسنوات أصطدم بزجاج القطار , ونزف دمه ..
وأبرقوا إلى راسبوتين .. ولم يشأ أن يرد ببرقية .
إنه أراد أن يجعل من نفسه شيئاً صعب المنال ..
فهو ليس موظفاً في القصر .. ولا هو مرغم على أن يعالج الأمير .. ثم إن القصر يجب أن يتعذب بعض الشئ .. وأن
يهتز عرش آل رومانوف .. ولماذ لا يتعذبون ؟ إنه رجل بلا قلب , وهذه هي النعمة الكبرى في حياته .. فلا هو يتألم لأحد,ولا يبكي على أحد .. فلا عاش لأحد .. ولا من أجل أحد ..
إنه فقط يريد أن يعيش وأن يعيش وأن يملأ حواسه من كل شئً حتى ينفجر من الحياة ..
ويقول : أما هؤلاء المرضى رجال القصر .. هؤلاء الخائفون . الذين يمسك بعضهم البعض في كراهية دائمة فهم أحق الناس بالموت .. فإذا أراد الإنسان أن يعيش فليبعد عنهم ألوف الأميال .. وهم يريدون أن يجعلوني واحداً منهم , ولاكن لن أكون .. فقد ولدت لأعيش ولأموت بعد ذلك .. أما هم فقد ولدوا ليمرضوا من الحقد والكراهية والمؤامرات ثم ليموتوا بعد ذلك ويدفنوا في قبور فخمة لا يراها أحد .. وإذا رآها لعنها وقال في سره :
هؤلاء اللصوص سرقوا الأكفان من الجيران !
وبعد يومين ذهب راسبوتين لعلاج ولي العهد .. ووجد الأطباء حول سريره .. ووجوههم قد إتفقت في صمت على :
أن الأمير مات .. وأن الباقية في حياة الإمبراطورة والإمبراطور !
ونظر إليهم راسبوتين : هذا قراركم إنه مات ..
ولم يرد عليه أحد ..
وعاد يقول : لم تقولوها ولكني أعرفها ..
وجلس إلى جوار المريض ..
ثم نزل إلى الأرض .. وركع وراح يصلي .. ويرفع صوته ويتصبب عرقه من وجهه .. ويتغير لونه .. ويصبح أميل إلى إلى الإصفرار .. ويزداد البريق في عينيه .. حتى لا يقوى أحد على النظر إليه ..
وبعد لحظات نهض راسبوتين.. ولمس ذراع المريض , وصدره ووجهه .. وتوقف الدم تماماً .. وتكلم الأمير-ونادى والدته- وهو يسألها : من هذا الرجل يا ماما ؟ لقد رأيته في الحلم بالأمس ! رأيته يعطيني بعض اللحم والتفاح ! فمن هو؟
وتقترب الإمبراطورة والدموع في عينيها وتقول :
إنه أعظم رجل في العالم يا ولدي .. إنه رجل من أقدس الرجال .. يجب أن تركع عند قدميه .. وأن تقبل قدمه إذا
تفضل ووافق على ذلك ..
ولم يتردد راسبوتين في أن يعطيها يده لتقبلها .. وركعت وقبلتها وجاءت من بعدها الوصيفات والنبيلات وقبلن يدى الرجل المقدس راسبوتين !
ومن الطبيعي أن يكرهه كل الأزواج , فكل زوجة لا تتحدث إلا عن هذا الرجل المقدس .. وعن قدراته في كل الإتجاهات ..
ويدور هذا الحوار في المساحة الضيقة التي قامت وأنهدمت فوقها كل سعادات وتعاسات الناس : علي السرير .
تقول أية زوجة : لو رأيته كيف يقبل النساء ؟
- وكيف رأيت ذلك .
- لم أره ولكني سمعت .
- وكيف يقبل النساء ؟
- إنه يعصرها بذراعيه ويسحقها بصدره .. ثم يعجن شفتيها بين شفتيه .. فلا هو يعضها ولا هو يأكلها ..
- وكيف عرفت هذه الأوصاف الدقيقة ؟
- أنا ؟ لا أعرف طبعاً .. ولكن زوجة وزير الخارجية هى التي قالت لي ذلك ..
قالت إنها إنفردت به مرة .. ومرة .. إنها لم تخجل أن تصف بالضبط كيف ..
هل أقول لك بالتفصيل ؟
لا داعي أنكم أيها الرجال تحقدون عليه .. لأنه صورة للرجولة الكاملة .. وأنتم صور فقط .. مناظر .. لاتشعرون بأي واجب نحو زوجاتكم .. لاتفكرون إلا في حياتكم .. إلا في المجد .. أما الزوجة .. ومشاعرها فهي شئ لاقيمة له .
- أعرف ما سوف تقولين .. فقد سمعته ألف مرة وقبل أن يظهر راسبوتين ..
- سمعته ألف مرة .. فماذا كانت النتيجة ؟
- لا شئ .. يبدو أن الإنسان إما أن يكون شيئاً إجتماعياً وإما ان يكون زوجاً .. ومن الصعب أن يكون الإثنين في وقت واحد !
- ولماذا لا تقولون ذلك لزوجاتكم ؟
- كنا نتصور أن الزوجات يعرفن ذلك ..
- ولكنك أنت نفسك لم تكن كذلك .. لم تكن هكذا مسلوباً مأخوذاً مسحوباً من عنقك وأنفك , وعقلك وقلبك , كأي حصان أمام عربجي أو بقرة أمامها جزار ..
- وكل الزوجات يقلن ذلك ..
- كلهن ؟ مستحيل طبعاً فهناك زوجات سعيدات .. أكثرهن سعيدات .. أنا فقط التعيسة سيئة الحظ .
- أنت وحدك ؟
- والحل ؟
- أنت عليك الحل ..
- أنا الذي أقوم بتوريد المشاكل , وأنا الذي أقوم بتصدير الحلول.. أنا الطبيب والمريض والداء و الدواء ..
- طبعاً أنت .. وهل تظن إنني سأذهب إلى راسبوتين للعلاج ..
- آه ..هذا ما تقصدين ..
- أنا لا أقصد شيئاً من ذلك .. ولكني فقط أقول لك ذلك .
إنني عرفت كثيرات يفعلن ذلك .. سيدات يحني المجتمع رأسه لهن .. وهن ينحنين تماماً عند حذاء راسبوتين ..
- وأنتي معجبة بهن ؟
- لست معجبة بهن ولكني أعذرهن فقط ..
- ..., ... ..
إلى آخر ما جاء في مسرحية " الشيطان راسبوتين " للكاتبة الإيطالية إلزه كاردوتشي ..
ولم يكن راسبوتين يشتغل بالسياسة .. ولكنه فقط كان يستفيد من سلطته على الأمبراطورة .. وكانت لا تعصي له أمراً .. ولكن الإمبراطور كان لا يحب هذا الرجل الذي يدخل كل غرف البيت بلا إذن .. والذي يجلس إلى جوار الإمبراطورة بعد خروجها من الحمام مباشرة ..وكان يلمس شعرها المبلل بيديه .. وكان يعصر شعرها في يديه ثم يشرب الماء الغزير من يديه - ولا أحد يدري كيف يكون الماء هكذاً كثيراً على الرغم من أن الإمبراطورة قد جففت شعرها جيداً !
ومن الغريب أن الذين ثاروا على راسبوتين من الرهبان كانوا من المصابين بالشذوذ الجنسي .. وكان راسبوتين يثير حقدهم عليه ..
حتى الأمير الذي دعاه إلى بيته ووضع له السم في الطعام .. كان شاذاً .. وكان يغار منه على زوحته التي أحبته حتى كل قطعة من حذائه السميك .. وقد إحتفظت بواحدة من حذائه في بيتها .. وكانت لا تنام إلا إذا وضعتها في أحضانها , لتحلم به إذا نامت , وكانت تحلم به وهي سعيدة !
ولكن السم الذي وضعه له في الطعام لم يكن له أدنى مفعول على المعدة التي تشرب العشرات من زجاجات الفودكا كل ليلة ..
فأطلق عليه الرصاص .. وأصابه .. ثم عاد فأطلق عليه الرصاص مرة أخرى .. ثم حمله وألقاه في فتحة من الجليد في أحد أنهار روسيا .. ومات الراهب غرقاً .. وعندما كشفوا عن جثته بعد ذلك لم يجدوا أي أثر للسم .. وبعد شهور أخرجوا جثته وأحرقوها !
ولم تكن هذه أول مرة يرى فيها بريق الرصاص من مسدس قد صوب إليه .. ففي يونيو سنة 1914 أصابته رصاصة في ساقه !
وفي يوم 2 يونيو بالتحديد في الساعة الثانية والربع مساء وفي نفس اللحظة إنطلق الرصاص في الصرب علي أمير
نمساوي .. أطلق الرصاص أحد الطلبة الوطنين .. وأدى هذا الرصاص إلى ان النمسا أعلنت الحرب على الصرب ..
وبدأت الحرب العالمية الأولى ..
ولو كان راسبوتين في القصر الإمبراطوري في ذلك الوقت لنصح الإمبراطور ألا يعلن الحرب .
وقد صرح بذلك راسبوتين .. ولذلك إعتبروه هو والإمبراطورة الأبمانية جاسوسين يعملان لحساب ألمانيا - تماماً - كما أتهمت ماري أنطوانيت زوجة لويس السادس
عشر- أيام الثورة الفرنسية - بإنها أيضاً جاسوسة تعمل لحساب النمسا !
***
أما الرجل " الساحر" الآخر فإسمه جورجيف .. روسي من
أصل يوناني وهو معاصر لراسبوتين وقد ولد بعده بعام واحد
سنة 1873.
ولكن هذا الرجل يؤمن بوضوح :
أن الإنسان نائم طول الوقت .. والنوم كالموت يعزله عن الناس وعن الشعور بهم .. ثم إنه يصحو بعد ذلك .. وهذا الصحو ليس كاملاً .. وإنما هو نصف صحو ونصف نوم..
والإنسان حياته كلها بين ضفتي الصحو والنوم .. ثم إن
هناك لحظات من الصحو التام .. يرى فيها الحقيقة ...
وعند رؤيته للحقيقة سوف يدرك أن كل شئ في الدنيا له معنى .. وأن لا شئ قد خلقه الله بلا معنى ..
تماماً كما أنه لا شئ في جسمك لا لزوم له , ولكن إذا عرف الإنسان في لحظات صحوه هذه شيئاً من الحقيقة , فسوف يكون قادراً على صنع المعجزات !
ولكن كيف يحقق الإنسان لحظات الصحو هذه ؟
يجيب جورجيف : عن طريق العمل والعمل .. والعمل الذي يقصده ليس أن تجلس إلى مكتبك وتقرأ وتكتب , ولا أن تذهب إلى حقلك فتحرث , ولا إلي مصنعك تدق الحديد بالحديد ..
ولكن أن يستغرقك عمل يدوي .. يجعلك تتحول إلى آلة .. إلى قطعة تتحرك بلا وعي .. وهذا الإرهاق والإجهاد والإهتزاز العنيف لجسمك هو الذي ينفض عنك تراب الحياة وعرق العمل ودموع الألم .. بعد ذلك يكون الجسم الإنساني صافياً ..
قادراً على الإحساس بالحقيقة .. لحظات من الإحساس بالحقيقة ..
تماماً كما ننظر إلى جدارً عالً .. وفجأة تنفتح طاقة فترى ما وراء الجدار ثم يعود الجدار إلى شكله العادي .. كل ذلك في لحظات !
وكان جورجيف عندما سافر من روسيا إلى فرنسا ليدير "مدرسة" أو كان له أتباع من الذين يهدمون الجسم من
أجل بناء الروح , ويطهرون الحواس بالعمل ..
وكان قادراً على أن يرى ما وراء الجدران بمجرد النظر إليها.. فيقول :
وراء الحائظ دولاب .. وفي الدولاب ستة فساتين ..
وكان يقول :
في جيبك ورقة مكتوب فيها كذا وكذا ..
أما كيف أصبح راسبوتين هكذا طبيباً روحياً , أو أصبح جورجيف قادراً على تحويل الأشياء المادية إلى زجاج شفاف يرى ما وراءه , فكلاهما لا يعرف . .
تماماً كما أن أحداً لا يعرف لماذا نظره ستة على ستة .. ومن الممكن أن يكون العالم العظيم ضعيف النظر .. والجاهل قوياً
صحيح النظر .. ففي الأدب : طه حسين والمعري والأعشى
وميلتون وهوميروس .. وكلهم لا يرون .. ولكن النور الذي خرج من رؤوسهم أضاء للذين لهم عيون ولا يرون مثلهم!
إن هناك كثيرين لا نعرفهم , لأن أحداً لا يدري , ولا هم يريدون أن يدري أحد أن عندهم هذه القدرات الغريبة على الرؤية والسماع والتنبؤ والعلاج .. ولا يعرفون كيف يجعلون هذه الموهبة أو هذه "الهبة " أعمق وأنفع للناس ..
ولابد أن الإنسانية ستحتاج إلى وقت أطول وعدد أكبر ليتعاون الجميع على فهم هذا الشئ القريب البعيد القديم الجديد : ذلك الإنسان !
وهكذا إنتهت قصة راسبوتين وجورجيف بأحداثها العجيبة
وإلي قصة جديدة أخرى وإلى اللقاء ..🙋