" الطلعة الأولى لدون كيشوت"
لم يشأ فارسنا , بعد أن أعد لكل شئ عدته , أن ينتظر أطول مما أنتظر لكي يقدم نفسه للجمهور , معتقداً أن تأخره لا يجعله مذنباً ومسئولاً عن كل في العالم من شرور ينبغي تداركها ومظالم لابد من إزالتها .
وهكذا , فقبل أن يعلم أحداً بما كان بفكر فيه , وقبل أن يفطن أي إنسان لذلك .
وفي فجر يوم جميل شديد الحرارة من شهر تموز , تقلد سلاحه,
وأمتطي حصانه , وحمل درقته , وأمسك برمحه , وخرج من الباب الخلفي إلى السهل .
وقد أستخفه الطرب حين رأى إن تنفيذ مشروعه العظيم يبدأ بهذه السهولة : لكم ما أن أصبح على مئة خطوة من منزله حتى كاد وخز ضميره يرده إلى البيت ويصرفه كلياً عن ذلك المشروع . لقد تذكر إنه لم يكرس بعد كفارس , إذ تقضي قوانين الفروسية الجوالة , أنه لا ينبغي له ولا يستطيع دون ذلك , أن يصارع فارساً آخر, وحتى عندما يكرس فعليه أن سلاحاً أبيض ليدل بذلك على أنه فارس جديد , ودون شعاراً على درقته إلى أن يستحق الشعار بقوة ساعده .
هذه الخواطرحملته على التردد , لكن جنونه كان إقوى من محاكماته المنطقية جميعاً.
فقرر أن يكرس فارساً على يد أول رجل يصادفه , وذلك على غراركثيرين فعلوا ذلك قبله , كما قرأ في الكتب .
أما فيما يتعلق بلون السلاح فقد نوى أن يجلو سلاحه حتى يصبح
أشد بيضاً من الثلج .
وهنا أرتاح فكره وتابع الطريق التي يحلو لحصانه أن يسلكها ,
ظناً أن جوهر المغامرة يكمن في ذلك . سار النهار كله فلم يقع له شئ يستحق الوقوف عنده , وقد ملأه ذلك بالأسى لفرط ما كان يتحرق إلى إختبار شدة بأسه .
أخذ يتطلع إلي جميع الجهات لعل نظره يقع علىقصر او علي منزل فلاح يمكنه أن يأوي إليه,
وبينما هو في طريقه أبصرنزلاً , فكإنما رأى نجمة تقوده إلى شاطئ السلامة . وحث حصانه بالرغم من إعيائه,
وبلغ النزل في الوقت الذي أخذ فيه النهار يتلاشى .
صادف عند الباب شابتين , مظهرهما مريبتان , وكانتا ذاهبتين إلى أشبيليه مع بغلين توقفوا هنا في هذه الليلة . ولما كان خيال فارسنا المغامر مليئاً بأحلام رواياته , وكان يحكم على الأشياء جميعاً من هذا المنطلق ,
فإنه لم يبصر النزل حتى تمثله قصراً بأربعة أبراج وبجسره المتحرك مع حفرة , ومع جميع الأشياء الملازمة للقصور التي لا ينفك المؤلفون يضفونها عليها .
توقف على بعد خطوات من هذا الحصن الجديد , وأنتظر أن ينفخ القزم في بوقه من أعلى المرقب , لينبه إلى وصول الفارس .
لكنه رأى أن القزم لم يظهر وأن "روسينانت" أخذت تفقد صبرها طلباً للإسطبل.
تقدم نحو باب النزل حيث رأى الفتاتان الآنفتي الذكر اللتين حسبهما أنستين مرموقتين تتبردان عند باب القصر . بوق ببوقه الصغير , مرتين أو ثلاثاً ليجمع خنازيره , فلم يشك دون كيشوت إن الذي بوق (كما كان يتمني) قزم أخطر القصر بمجيئه .
وعلى الفور , دنا بفرحً لاسبيل إلى وصفه , من الباب الذي وقفت عنده الفتاتان , فخافتا من هذا الرجل المدجج بالسلاح مع ترسه ورمحه وهمتا بالفرار.
لكن دون كيشوت الذي لاحظ خوفهما رفع واقية الخوذة الكرتونية فكشف عن وجه الجاف والمغبر وقال لهما بلطف وبصوت رصين :
لا تهربا أيتها الآنستان . فليس هناك ما تخشيانه , إن نظام الفروسية التي أمارسها لا تسمح لي بإهانة أحد , فكم بالأحرى الآنسات الجميلات الفضلات مثلكما .
توقفتا ونظرتا بدهشة إلى هذه الصورة الغريبة لمغامرنا , بيد أنهما عندما سمعتاه يدعوانهما آنستين , وهو أمرُ لم يقعُ لهما من قبل , لم تتمالكا نفسيهما من الضحك , , بحيث أن دون كيشوت الذي لم يعرف مم تضحكان .
غضب حقاً وقال لهما : التواضع والرزانة يليقان بالحسناوات , وهذا نصيبهن , أما الضحك دون سبب فهو سذاجة تقترب من الجنون , ولست أقول هذا , يا آنستي لكي أهينكما , إذ ليس لي في نهاية الأمر .من هدف سوى خدمتكما .
هذه الطريقة الجديدة في الكلام إيضاً من رغبتهما في الضحك .
فزاده ضحكمها حزناً ,
فلا شك أنه في نهاية الأمرإنه ما كان ليقتصر علي ذلك لولا أن شاهد صاحب النزل يخرح ..
تابعونا ..
ولما رأى صاحب النزل هذه الصورة المشوهة والمسلحة , على نحو غريب , بالدرع والرمح والدرقة , راودته الرغبة في الضحك بمقدار ما راودت الفتاتين . إلا أنه كان إلا إنه كان أكثر خوفاً منهمن أمام عدة الحرب هذه , فقرر أن يتعامل معه بإحترام وقال له :
مولاي الفارس , إن تبحث عن مآوي فلن يعزك شئ هنا سوي السرير ,
وما سوي ذلك فهو متوفر .
رأى دون كيشوت أدب حاكم القلعة ( هكذا بدا له صاحب النزل
والنزل)
فأجابه :
" أيها السيد سيد القصر , أقل الأشياء تكفيني , ولست أدعي الرقة والرهافة , ولا آبه للزينة , لأن أسلحتي هي زينتي وهي عدتي , ولا راحة لي إلا في القتال" .
لم يفهم صاحب النزل في البداية لماذا دعاه دون كيشوت سيد القصر , لكن بما أنه كان داهية أندلسياً , ولصاً مغرقاً باللصوصية في مهنته , فأجابه : " علي هذا الأساس , ياسيدي , ستكون الحجارة سريراً وثيراً لسيادتك , وأنا على يقين أنك لا تنام إلا لماماً كالحارس الليلي.
وهكذا ,
يمكنك أن تترجل , وستتأكد من إنك ستجد هنا ما تقضي به لا ليلة واحدة دون نوم فحسب بل سنة كاملة .
قال هذا وأمسك بركاب دون كيشوت الذي ترجل عن حصانه بمشقة , شأنه شأن الرجل الذي لم يتناول فطوره بعد في التاسعة
مساءً .
رجا دون كيشوت صاحب النزل أن يأمر رجاله برعاية الحصان,
مؤكداً أن ليس بين جميع الحيوانات التى تأكل العلف ما هو أفضل منه .
تأمل صاحب النزل الحصان فلم يجده بهذه الجودة التي وصفه بها دون كيشوت , ولا بنصفها.
وبعد أن زود الحصان بما يلزمه في الأسطبل , جاء ليري ما يطلبه فارسنا , فوجده ينزع سلاحه بمعونة الآنستين المزعومتين اللتين تصالح معهن . خلعتا عنه درعه , لكنهما عجزتا بالرغم من الجهد الشديد عن
فك واقية الرقبة ولا رفع الخوذة التي كانت مربوطة بشرائط
خضر لم يمكنهما حل عقدهما دون قطعها , وهو أمر لم يقبل به
بحيث قضي ليلته وخوذته علي رأسه ,
مما جعل هيئته أغرب أغرب هيئة وأحفلها بالطرافة .
ومع ذلك كان سعيداً بطلعته الأولى , وجعله نجاحها يأمل كثيراً بما سيتلوها . الشئ الوحيد الذي كان يحزنه هو إنه لم يكرس بعد كفارس حامل للسلاح ,
لأنه لا يستطيع قانونياً دون ذلك أن يشرع في أية مغامرة .
* * *