الاثنين، 10 يونيو 2024

قرأت لكم للكاتب الكبير "أنيس منصور" "دائماً تختفي الصور من البرواز" - اليوم 10 يونيو 2024


 

دائماً ...

تختفي الصور من البرواز

أبو الحظ والمرح واللهو واللعب هو الملل .. فهو الذي دفع الإنسان إلى أن يفعل شيئاً آخر .. إلى أن يواجه التثاؤب بشئ جديد .. وليس من قبيل الصدفة أن يكون نوح عليه السلام هو أول من عصرالنبيذ

فبعد رحلته الأليمة والعالم كله يغرق من حوله وأبنه أيضاً كان من الضروري أن يشعر بالملل والقرف وأن يذوب الملل والضيق في

طعم النبيذ ..


ولذلك لم يكن بحارة السفينة المعروفة بأسم "العناية الآلهية" مبالغين عندما أطلقوا على واحد منهم أسم :: نوح .. فهو وحده القادرعلى أن

ينجو بهم من محيط الملل والحنين إلى الأهل , وذلك عن طريق الألعاب والحيل التي يقوم بها على ظهر السفينة .. 
إنه لم يتعلم القراءة والكتابة .. ولا حتى يفهم مبادئ الدين .. ولكنه هو شخصياً لا يعرف كيف يقول أوماذا يقول :

إن الذى يقف ورائي الآن هو فلان وقد أرتدى قميصاً أحمر أو أخضر .

أو وضع في يده مسدساً .. والمسدس ليس محشواً بالبارود !

ولا يعرف كيف يضع آنفه في الطعام فيقول :

ليس فيه ملح .. أو كثير الملح .. أو به سم لا تأكوله !

حدث ذلك أكثر من مرة عندما توقفت السفينة في جزر أوزوريس ,

وصرخ فيهم نوح :

أبعدوا عن هذا الطعام إنه مسموم !


إنتظرونا..
ولم يصدقوه .. وقدموا هذا الطعام لكلب في الطريق .. ولم تمض دقائق حتى بدا الكلب يتلوى .. ثم مات !
كيف يعرف ذلك ؟ أنه لايعرف .. ولا أحد أيضاً !
ولكن اللغز الأكبر حدث يوم 4 ديسمبر1872 , كانت السفينة التجارية " العناية الآلهية " في طريقها من أمريكا إلى جبل طارق..
وعلى مدى 600 كيلومتر قابلت سفينة أخرى أسمها "مريم المقدسة" .. ومن بعيد صرخ نوح : عجيبة ! عجيبة ! 
هذه السفينة ليس بها بحار واحد , ولا واحد , ولا قبطان .. وزوجة القبطان غير موجودة . وأبنه أيضاً .. أبنه عمره سنتان !

وكانت الباخرة "مريم المقدسة" تبعد حوالي عشرين كيلومتراً ..وتلفت البحارة يتساءلون :
هل نغامر ونقترب منها ؟ 
وكان رأي القبطان : لابد أن يكون نوح على حق .. فأقتربوا !
وإقتربوا أكثر .. وأنزلوا زورق صغير به بعض البحارة .. وتسلقوا السفينة "مريم " .. ولم يجدوا أحداً بها .. ولكن السفينة ماضية في طريقها الملاحي المعروف .. الذي تلعب بها الأمواج .. والأشرعة يملؤها الهواء .. والخشب يئن تحت أقدام البحارة وبسبب ضغط الموج وإرتعاشة الأشرعة .. لا أحد .. وغرفة القبطان خالية تماماً .. ولكن على مكتب القبطان بقايا طعام , ولا أثر بغد ذلك لأي شئ.

إنتظرونا..
أما حمولة السفينة فهي 1700 برميل من الكحول غير القابل للشرب .. 
والكحول موضوع في مكان آمن .. بعيداً عن أي خطر , وكل البراميل محكمة .. فيما عدا برميل واحد مفتوحاً .. 
ولابد أن رجال الجمارك في أحد الموانيء قد فتحوه ليعرفوا .. وهذا طبيعي .
وفي إحدى الغرف الصغيرة يوجد صندوق مجوهرات .. وبعض الملابس النسائية .. ويوجد أيضاً على السرير سيف ثمين .
وبنظرة سريعة يمكن أن يقال أن كل شئ تم بسرعة .. لقد خرج البحارة والركاب والقبطان بسرعة ..

لاشئ يدل على أن معركة وقعت .. أو إن أحداً قتل أحداً .. ولا حتى على سرقة .. ولكن الجميع تركوا السفينة في ظروف غير مفهومة!
والشئ الذي أسعد قبطان وبحارة "العناية الآلهية" أن هذه السفينة تعتبر غنيمة .. فقد وجدوها في المياه الدولية .. وهي من حق أي إنسان يجدها .. إنها تماماً كالسفن الغارقة .. إذن هذه السفينة من حق الجميع بكل ما فيها من حمولة .. وأهم من ذلك أن السفينة نفسها سليمة ..
ووصلت السفينة "مريم المقدسة " إلى الموانئ البريطانية .
وهنا كان لابد أن يوجهوا القانون البحري الذي ينص على أن السفن الغارقة في المياه الدولية مستباحة لكل الناس .. ولكن هذه السفينة لم تكن غارقة .. 

إنها سليمة تماماً .. ولكن رجالها قد تركوها .. أو أرغموا على تركها ..
أو قتلوا .. وحمولة هذه السفينة قدرت بخمسين ألفاً من الجنيهات .. وهو مبلغ ضخم .
وأمرت المحكمة بأن ينزل إلى البحر عدد من الغواصين ليفحصوا قاع السفينة وعادوا ليقولوا : إنها سليمة .
ولكن المدعي العام الإنجليزي أعلن أن الذي حدث : جريمة قتل ثم قرصنة بعد ذلك !
إن بحارة " العناية الآلهية " قتلوا بحارة السفينة الأخري .. ثم إستولوا على السفينة .. وهناك أدلة على ذلك .. فهناك بقع على ظهر السفينة .. لابد إنها كانت دماءً , ثم جاء ملح البحر وأزال الدم ..
ثم إن السيف نفسه عليه بقع قد إزيلت بالفعل .

لما قيل له : كيف يرتكب البحارة كل هذه الجرائم ثم يقفون بين يدي القضاة بهذا الهدوء ؟
فكان رده :
إننا نرى مثل ذلك كثيراً بين الممثلين وبين محترفي الأجرام .
ولما قالوا له : أن نوحاً يستطيع أن يعرف ما الذي في جيبك !
صرخ المدعي العام قائلاً :
وتعملون بالسحر الأسود أيضاً .. أن هذه قضية أخرى !
وعاد المدعي العام يقول :
إنني لا أستطيع أن أفهم كيف أن سفينة بهذه الحمولة تركت وحدها دون أحد .. كيف تتمكن من السير وحدها في نفس الخط الملاحي .. كيف لم تخطئ ..

إنتظرونا
كيف لم تعصف بها الرياح .. أن جريمة قد وقعت .. وأنني أطالب بأعناق الجميع .. أن تفسيري للموقف هو إن البحارة قد سكروا , وقتلوا القبطان وزوجته وأبنه وحطموا المجاديف وأخذوها معهم في زورق النجاة وتركوا السفينة وأختفوا .
وكان الرد على المدعي العام :
لو كانت هناك نقطة دم في السيف لكان من الأفضل إلقاؤه في البحر ..
ولو كانت النية عند البحارة أن يسرقوا السفينة لباعوا حمولتها من الكحول .. ثم أستولوا على المجوهرات .. ثم فكروا ودبروا قبل أن يأتوا بالسفينة إلى الموانئ البريطانية بهذه السرعة !

ولم تشأ المحكمة أن تصدر قرارها بشأن هذه السفينة .. وإنما آكتفت بأن منحت البحارة مكافأة مالية قدرها 1700 جنيه أى ما يعادل خمس ثمن السفينة وحمولتها لحظة العثور عليها !
وعادت السفينة إلى صاحبها الأمريكي وأصبح لها قبطان جديد وبحارة آخرون.
هذه السفينة تعتبر أشهر سفينة "منحوسة" في التاريخ , فهي تزن 282 طناً .. وطولها 103 أقدام وعرضها 25 قدماً .. وكان أسمها "الأمازون" , وبعد 48 ساعة من تدشينها مات أول قبطان لها.
وعين لها قبطان ثان .. وفي أولى رحلاتها عبر المحيط إصطدمت بحاجز صخري .. وأصلحت .. ثم شبت النار فيها .. وفصل قبطانها الثاني الذي مات بعد ذلك بيومين ..

وأصلحت السفينة .. وأصطدمت بأحدى عابرات المحيط , وقتل قبطانها .. وعين لها واحد جديداً .. وعندما عادت إلى كندا تحطمت تماماً .. 
وإشترى السفينة إثنان من التجارالأمريكان .. أفلسا تماماً بعد ذلك..
وعندما عادت السفينة إلى الشواطئ الأمريكية أعلنت إحدى شركات التأمين إنها سليمة وصالحة للملاحة .. ورفض بعض البحارة أن يعمل بها , لأنها منحوسة !
وجاء قبطان جديد يملك نصفها .. وكانت ترافقه زوجته دائماً وأبنه الوحيد .. وهو شئ مألوف في ذلك الوقت ..

إنتظرونا..
وفي هذا الوقت غيرت السفينة أسمها إلى " مريم المقدسة " وأختفى هذا القبطان وزوجته وأبنه وكل البحارة في هذه الظروف التي لا يعرفها أحد !
وفي سنة 1884 أصبح معروفاً في العالم أن هذه السفينة ليست إلا كارثة عائمة .. كارثة على الذين يعملون فيها أو يسافرون عليها .. أو يفكرون في ذلك ..
وفي إحدى الليالي طلب القبطان من البحارة أن يستعدوا لحدث جلل ..
أعلن القبطان : يجب أن نتعاون جميعاً على ذهاب هذا النحس .. وعلى القضاء على هذه السفينة المسكونة بالشر .. مهما كلفنا ذلك!
ما رأيكم ؟ قالوا : مهما كان الثمن ؟
وطلب إليهم القبطان أن يرتدوا أحسن ملابسهم .. وأن يعدوا زورق النجاة .. وأن يشربوا .. وأن يغنوا ويرقصوا .. ثم فتحوا أشرعة السفينة وأتجهوا بها نحو صخور مرجانية عالية بارزة كإنها أنياب وحش .. ودخلت السفينة بين هذه الأنياب في اللحظة التي شبت فيها النيران .. وإنفجرت .. ومات القبطان .. وجرح إثنان من رجاله ..
ودخل أثنان آخران مستشفى الأمراض العقلية .. واحد من هؤلاء البحارة كان يصرخ ويقول : أنا لم أقتل القبطان .. أنا أعرف من هو؟
وكانت هذه أول مرة يعرف فيها أحد من الناس أن أسمها كاترين .. 
بل أن الذي أكتشف أن بالفعل كان كاترين هو أحد رجال القانون البحري بعد ذلك بأربعين عاماً !
وقد حصل طالب أمريكي على الدكتوراه في القانون البحري الجنائي موضوعه :
" جريمة السفينة مريم المقدسة "
وقد عاد هذا الطالب إلى كل الوثائق والدوسيهات الخاصة بالملاحة في ذلك الوقت ولكل الموانئ التي توقفت عندها .. وأنتهي طالب الدكتوراه إلى :
أن بحارة السفينة وقبطانها قد تركوا السفينة بسرعة .. وربما كان سبب ذلك إنهم خافوا أن تنفجر شحنة الكحول .. ثم أنهم ركبوا زورق النجاة بمنتهى العناية .. كما أن القبطان قد حمل معه الساعة والبوصلة و"دفتر أحوال السفينة" .. وكان عنده أمل كبير في النجاة .


وفي سنة 1900 ظهرت قصة في إنجلترا تتخيل ما حدث للسفينة " " مريم المقدسة " لأديب أسمه تشارلز هنت .. لقد تمثل أن وحشاً بحرياً قد مد رأسه إلى داخل السفينة وإلتقط بحارتها واحداً واحداً .. وعندما إبتلعهم إختفي .. وترك السفينة كما هي .. وهناك آثار طفيفة تدل على إنه أدخل رأسه من إحدى النوافذ .. أو أدخل أحد أطرافه ..
وتصيدهم واحد واحد .. ولا بد أنه بدأ بالقبطان وأبنه ثم زوجته وبقية البحارة !

وفي سنة 1955 إنشغل العالم كله " بالأطباق الطائرة " التي ظهرت في كل مكان .. والتي كانت لها أشكال متعددة منها الأسطوانية والدائرية والبيضاوية .. والتي شوهدت وهي تقترب من الأرض وتخطف الرجال والأطفال .. وتترك بقعاً على الأرض .. والتي تفسد الموجات اللاسلكية والتي تعترض الطائرات ..
وفي ذلك الوقت قيل أن بعض سكان الكواكب الأخرى قد إقتربوا من الأرض - لأي سبب .. لابد إنهم يحذرون سكان الأرض من اللعب بالقنابل الذرية ..

أو لعل سكان الكواكب الأخرى يتنزهون بين الكواكب .. أو يبحثون عن شئً لا نعرفه ..
وفي ذلك الوقت من سنة 1955 قيل أنه لا يستبعد أن يكون أحد الأطباق الطائرة قد هبط على وجه المحيط وإلتقط ركاب هذه السفينة .. ليجروا عليهم بعض التجارب ..

كما نفعل نحن مع الأرانب و الفئران .. ومن يدرى ربما كانت الكرة الأرضية كلها - وهي شئ تافه بالنسبة للكون - حظيرة حيوانات عاقلة .. وهى موضوع نظر وبحث وملاحظة دقيقة من كائنات أخرى أكثر تطوراً !

* * *
وفي نيويورك متحف صغير في شارع "وول ستريت" , هذا المتحف يضم نموذجاً مصغراً للسفينة "مريم المقدسة" , المتحف قد أقامته شركة التأمينات المتبادلة .. وفي المتحف نموذج بالحجم الطبيعي  لغرفة القبطان كما كانت يوم صعد إليها بحارة " العناية الآلهية .
وقد تخيل فنان أمريكي صورة للبحار نوح وبعث بها إلى المتحف .. 
ولكن هذه اللوحة أختفت .. ثم عاد فرسم له صورة أخرى فأختفت .. فقرر أن يرسم اللوحة على الحائط .. وأن يجعل ألوانها صارخة  .. وأن يحيطها بلوح زجاجي .. وعندما أفتتح هذا المتحف وقف الناس ينظرون إلى البرواز واللوح الزجاجي ويتساءلون :
وما هي الحكمة في أن يكون هناك برواز وزجاج بلا صورة !

لقد تلاشت صورة نوح من فوق الحائط .. ولكن البرواز والزجاج ودهشة الناس ما تزال هناك !
أنتهت القصة .. مع قصة جديدة أخرى ..
إنتظرونا ..

ليست هناك تعليقات: